تركيا والغرب.. عقد التاريخ ومصالح الحاضر
تعد تركيا دولة مسلمة حيث إن الأكثرية الساحقة من سكانها من المسلمين. وتعد تركيا دولة شرقية أكثر من كونها دولة أوروبية–غربية، لأن القسم الأكبر من أراضيها يقع في آسيا، ما عدا جزءا صغيرا من أراضيها يقع في أوروبا. وتعد تركيا دولة علمانية–أوروبية لأن دستورها ومبادئ أتاتورك تنص على أن تركيا دولة علمانية. وتعد تركيا دولة أوروبية لأنها تسير في الركب الأوروبي منذ فترة طويلة جدا.
تغيير الوجهة
تعود جذور علاقة تركيا بالغرب وبشكل خاص أوروبا إلى الدولة العثمانية التي دخلت في علاقات صراع مع الإمبراطوريات الأوروبية منذ فتح إسطنبول في القرن الخامس عشر وما تلاه بعد ذلك من فتح لمعظم جنوب شرق أوروبا وصولا إلى فيينا التي سجل فشل العثمانيين في فتحها في القرن الـ17 بداية العد التنازلي لإمبراطوريتهم.
"
ورثت الجمهورية التركية من العثمانيين تاريخا من الصراعات والشكوك مع الغرب لكن إجراءات أتاتورك أقصت تركيا من عالمها الشرقي الإسلامي نحو الغرب
"
لقد كانت الإمبراطورية العثمانية تمثل أكبر خطر على الأوروبيين، وهو ما يفسر -ربما- الدور الكبير للغرب في انهيار هذه الإمبراطورية من خلال خلق الفتنة والحقد بين الأقوام والملل التي كانت تعيش ضمن حدودها مترامية الأطراف، وذلك رغم أن العثمانيين حاولوا خلال القرون الأخيرة تقليد أوروبا والغرب بشكل أعمى، وابتعدوا عن كيان الدولة الحقيقي الذي أسهم في ديمومتها مئات السنين.
وهكذا ورثت الدولة التركية الحديثة تاريخا من الصراعات والشكوك مع أوروبا، إلا أن مؤسس الدولة مصطفى كمال أتاتورك اتخذ منذ بداية العهد الجمهوري عام 1923 العديد من القرارات الجذرية التي أدت إلى تغيير وجهة تركيا من الشرق إلى الغرب. ومن بين هذه القرارات استخدام الأحرف اللاتينية مكان العربية في الكتابة وإلغاء عطلة يوم الجمعة. وهي قرارات كان لها في اعتقادي دور كبير في إقصاء جمهورية تركيا من الشرق العربي والإسلامي وتقريبها من الغرب لاسيما فيما يتعلق باستبدال الأبجدية التي تشكل مدخلا ثقافيا للتواصل الحضاري والإنساني.
وخلال عهد أتاتورك (1923-1938) تحقق تقارب بين تركيا والغرب على مختلف الأصعدة، واتخذت خطوات هامة لتطوير العلاقات السياسية بين تركيا وأوروبا. ونلاحظ أن تركيا قامت خلال هذه الفترة بتعيين 26 سفيرا لدى الدول الأجنبية، 19 منهم في العواصم الأوروبية الرئيسة مثل لندن وباريس وفيينا وأستوكهولم وبرلين. كما أن الدول الغربية وفي مقدمتها كل من إنجلترا وألمانيا وإيطاليا وفرنسا ودول أوروبا الغربية كانت تحتل مكان الصدارة بين الدول التي تقوم بالاتجار مع تركيا.
ويتضح من خلال هذه التطورات أن السياسة الرئيسة التي كانت تتبعها تركيا خلال الأعوام الأولى من تأسيس الجمهورية هي تطوير العلاقات السياسية والاقتصادية مع أوروبا.
الاندماج مع الغرب
كانت علاقات تركيا جيدة مع الاتحاد السوفياتي قبل الحرب العالمية الثانية، لكن هذه العلاقة قد بدأت تسوء بعد هذه الحرب إثر مطالبة ستالين ببعض الأراضي التركية الواقعة في الشرق، بالإضافة إلى إفصاحه عن رغبته في فرض الرقابة على حركة المرور في المضايق البحرية التركية. وقد تسبب هذا الموقف الذي اتخذه الاتحاد السوفياتي في توجه تركيا نحو الغرب أكثر فأكثر.
وكان من بين تعبيرات هذا التوجه انضمام تركيا إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) عام 1949 لتشكل بذلك خط الدفاع الهام بالنسبة لأوروبا الغربية في مواجهة المعسكر الاشتراكي خلال الحرب الباردة. وبطبيعة الحال أسهم هذا الأمر في تطوير العلاقات الدفاعية بين تركيا وأوروبا وأميركا على الأخص.
"
مثل انتماء تركيا إلى حلف الناتو عام 1949 مدخلا قويا لتقارب تركيا مع أوروبا وطلب الانضمام للاتحاد الأوروبي
"
وإذا كانت العلاقات الدفاعية والأمنية قد مثلت المدخل الأكبر لعلاقات خاصة بين تركيا والغرب فإن تركيا قامت عام 1963 بالتوقيع على اتفاقية أنقرة التي تقضي بقبول عضويتها التامة في الاتحاد الأوروبي، مع الاتحاد الأوروبي الذي كان قد تأسس عام 1957 بهدف تطوير علاقاتها السياسية والاقتصادية مع أوروبا.
استمر التقارب التركي من الغرب وأوروبا طيلة فترات الحكومات التي تولت الحكم في تركيا، ما عدا بعض الفترات التي تخللتها حالات من التوتر في العلاقات مثلما حدث أثناء حرب قبرص عام 1974 عندما فرض الغرب حظرا على تركيا.
وتواصل هذا الركود في العلاقات خلال السبعينيات وتركز على الجانب الاقتصادي ولكن سرعان ما عادت هذه العلاقة لتشهد تطورا جديدا عام 1983 ولتنتهي عام 1987 بطلب تركيا الانتماء للعضوية التامة في الاتحاد الأوروبي.
وفي العام 1989 أعلن الاتحاد الأوروبي أن تركيا دولة ملائمة للعضوية في الاتحاد وأعقبها المجلس الأوروبي عام 1990 بالمصادقة على ذلك الإعلان. وبتاريخ 1 يناير/ كانون الثاني 1996 قبلت عضوية تركيا في الاتحاد الجمركي الأوروبي. وأما فيما يتعلق بقبول عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي فرغم كل الادعاءات والأقاويل يجب الالتزام بالواقعية في هذا الصدد. إن قبول عضوية تركيا التامة في الاتحاد أمر صعب للغاية، لأن الدول الأوروبية لا ترغب بقبول هذه العضوية بسبب العديد من المخاوف أولها كون تركيا دولة إسلامية وثانيها بسبب زيادة عدد سكانها، بالإضافة إلى العديد من الأسباب الأخرى.
ومثلما يشير بعض المراقبين السياسيين، هناك لعبة يتم ممارستها من قبل عدة لاعبين في هذا الشأن، فمن جهة نرى أن الاتحاد الأوروبي يقدم لتركيا بعض الوعود، لكنه لا ينفذها، ومن جهة أخرى تتعهد تركيا أيضا بتنفيذ بعض الأمور المطلوبة منها من قبل الاتحاد، ولكنها لا تنفذها بحذافيرها. وباختصار فإن الجانبين يماطلان بعضهما بعضا في هذا الصدد، وكلا الجانبين يدركان أن هذه القضية ستطول إلى فترة زمنية غير معروفة رغم أنه يتم تحديدها من قبل البعض بـ10 أعوام أو 15 عاما.
سياسة باتجاهين
وصلت الحكومة التركية الراهنة إلى السلطة بعد الانتخابات التي جرت في الثالث من نوفمبر/ تشرين الثاني 2002 ويقودها حزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه رجب طيب أردوغان الذي يعد من الشباب الذين برزوا على يد زعيم حزب الرفاه السابق نجم الدين أربكان. ويتم وصف هذه الحكومة بذات الميول الإسلامية، لكنها ترفض قبول هذه الصفة وتفضل استخدام الوصف الديمقراطي المحافظ. "
تقوم حكومة أردوغان بممارسة سياسة ذات اتجاهين حيث تتطلع لعلاقات افضل مع الغرب وتوثق علاقاتها مع الدول العربية والإسلامية
"
وتقوم هذه الحكومة بممارسة سياسة خارجية ذات اتجاهين، فمن جهة تسعى لتحقيق قبول عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى سعيها الدءوب للحفاظ على علاقات جيدة مع الولايات المتحدة الأميركية رغم النكسات التي حدثت في العلاقات الثنائية معها خلال فترة رفض البرلمان التركي الموافقة على المذكرة التي كانت تسمح باستخدام الجيش الأميركي الأراضي التركية للعبور إلى العراق وكذلك بسبب العلاقة مع إسرائيل، ومن جهة أخرى تعمل جاهدة في توثيق وتعزيز العلاقات مع الدول العربية والإسلامية.
وتؤكد هذه الحكومة أنها تعمل من أجل تحقيق الحوار بين الحضارات بدلا من الصراع بينها وأنها تبذل الجهود لجعل تركيا الدولة الوسيطة، وتؤكد وجوب حل المشاكل بين الغرب والشرق عن طريق الحوار وبالطرق السلمية.
ولكن هناك حالة صعبة تواجه هذه الحكومة، حيث إن الأرضية الشعبية التي تستند عليها قد لا تكون راضية عن بعض مواقفها إزاء الغرب وأوروبا، وذلك خاصة فيما يتعلق بمواقف هذه الدول إزاء القضية القبرصية والأوضاع الأمنية الناجمة عن الأعمال الإرهابية التي تستهدف تركيا عبر شمال العراق والأحداث التي تقع في فلسطين.
ولهذا السبب تقوم الحكومة بتحقيق التوازن بين موقفها إزاء الغرب وإزاء القضايا الوطنية التي قد تتسبب في فقدانها لنسبة من الأصوات في حال تخليها عنها. ومن هذا المنطلق يمكن القول إن هذه الحكومة تبذل الجهد من أجل تحقيق الاحتفاظ بشعبيتها من جهة، وبالدعم الذي قد تحتاج إليه من أوروبا والغرب في مواصلة سياساتها في هذه المنطقة الحساسة التي تشهد تطورات مثيرة لا يمكن التكهن بها من جهة أخرى.
وفي الختام يمكن القول إن أي حكومة قد تأتي للحكم في تركيا لا يمكنها أن تتخلى تماما عن الغرب وأوروبا مثلما لا يمكنها التخلي عن الشرق والإسلام. ويجب عدم نسيان أن تركيا رغم كونها دولة علمانية قريبة بهذا الطابع من الغرب، فإنها في نفس الوقت دولة إسلامية ورثت إحدى كبرى الإمبراطوريات التي حكمت هذه البقاع لفترة طويلة ويتعين عليها أن تدرك المسؤوليات التاريخية والثقافية التي تقع على عاتقها إزاء المنطقة التي تتواجد فيها وإزاء العالم برمته.