الهنود الحمر، والعرب، والإباديّون ؟
قبل أيام، أعلن الرئيس الفنزويلي المحترم هوغو شافيز أن كريستوفر كولومبس أطلق أكبر عملية إبادة جماعية عرفها تاريخ البشرية. وقال أن الغزاة الأوروبيين قتلوا سكان أميركا من الهنود بمعدّل يومي بلغ في المتوسط قتيلاً واحداً كل عشر دقائق! وجاء إعلان الرئيس الفنزويلي بمناسبة الاحتفالات التي تقيمها الولايات المتحدة الأميركية والعديد من دول أميركا اللاتينية بيوم كولومبس (12 أكتوبر/ تشرين الأول) الذي يعتبر يوم عطلة، أي عيد قومي! واقترح شافيز أن يكون هذا اليوم يوم ذكرى للمقاومة الهندية، وحثّ شعوب أميركا اللاتينية على عدم الاحتفال بيوم كولومبس الذي أدى إلى انطلاق عمليات إبادة جماعية لأهالي القارة استمرت أكثر من 150 عاماً! ويجدر بنا التذكير هنا أن نتائج تلك العمليات أسفرت عن إبادة أكثر من 80 مليوناً من الأهالي، منهم 8.5 مليوناً في المنطقة المعروفة اليوم باسم الولايات المتحدة الأميركية!
إن العرب، والمسلمين عموماً، معنيون أكثر من أية أمة أخرى بالتأمل في مصير شعوب القارة الأميركية، لأن قوى الإبادة والاستيطان ذاتها ما زالت تحاول تكرار التجربة الرهيبة في بلادهم، ولأن هذه المحاولة تأخذ راهناً وضعاً جدّياً ميدانياً، في فلسطين خاصة، وفي العراق وأفغانستان، وفي أكثر من قطر عربي وإسلامي آخر. إن الإباديين هم أنفسهم، بعقيدتهم الإجرامية ذاتها، وهي العقيدة التي تقوم على ثوابت خمسة: 1- أن الله اختارهم بصفتهم عرقاً متفوقاً 2- أنهم الإسرائيليون العبرانيون الجدد (الإنكليز) الذين أعطوا أميركا معناها الإسرائيلي التوراتي 3- أن الله كلفهم بدور خلاصي للعالم أجمع 4- أن التوسع اللانهائي هو قدرهم 5- أن لهم حق التضحية بالآخر! أما الاختلاف فهو في طبيعة الأمة التي يهاجمونها اليوم، من حيث تكوينها وموقعها التاريخي والجغرافي، إضافة إلى الإختلاف في الزمان.
من يملك الأرض والبحار والسماء ؟!
غير أن الكثيرين من الساسة والمفكرين العرب والمسلمين ما زالوا يعوّلون على ألاسكا وبحر الشمال وسيبيريا في مواجهة الأخطار الماحقة التي تتعرض لها أمتهم وبلادهم، فترى رؤوسهم مشرئبة إلى الأميركيين والإنجليز والأوروبيين، يرون الدنيا بعيونهم ويفهمونها بعقولهم، ولا يخطر في بالهم أبداً أن أمتهم جديرة برؤية خاصة وبقرار خاص! إن أمثال هؤلاء هم الذين يسهّلون للعدو الفتك بأمتهم مثلما فتك بالهنود الحمر، غير أن أداء الشعب الفلسطيني والشعب العراقي، وقبلهما الشعب الجزائري، برهن أن الفشل والخيبة والهزيمة في هذه المنطقة سوف تكون من نصيب المعتدين والمعجبين بهم.
في أواخر حرب الإبادة الضارية، وقف أحد زعماء الهنود الحمر يخاطب مفاوضيه من الحكومة الفيدرالية الأميركية، فقال ما معناه:
"تطلبون مني أن أتنازل لكم عن الأرض؟ ولكن، هل أنا أملك الأرض حتى املك حق التنازل لكم عنها؟ من يستطيع الزعم أنه يملك الأرض والبحار والسماء؟! أنتم، عندما وصلتم إلى بلادنا، رحبنا بكم، وعلمناكم كيف تبدأون حياتكم الجديدة على أرض تجهلونها، وتطلّعنا إلى التعلّم منكم، لكنكم رحتم تبيدون قطعان المواشي، وتدمرون الغابات، وتقتلون الناس! نحن نأخذ من القطعان حاجتنا، ونأخذ من الغابات ما يلزمنا، فلماذا تبيدون القطعان وتدمّرون الغابات ؟! أشعر أنّ قلبي يدمى!
لقد أرغم الهنود الحمر، عبر مسيرة الإبادة والاستيطان الطويلة، على توقيع 370 معاهدة مع الحكومة الفيدرالية الأميركية. إن أرشيف الحكومة الأميركية يحتفظ بملفات تلك المعاهدات التي تبدو كل واحدة منها مستكملة لجميع الشروط الأصولية والقانونية، وتبدو كأنما هي المعاهدة الأخيرة غير القابلة للانتهاك والنكوص، غير أنها انتهكت جميعها الواحدة تلو الأخرى، وتحوّلت إلى مجرّد حبر على ورق، وصار واضحاً أن عقد كل معاهدة كان الهدف منه تثبيت الأمر الواقع لصالح الإباديين المستوطنين، وتجميد الوضع الراهن عند الحدّ الذي بلغه لصالحهم أيضاً، وأنها مجرّد خديعة هدفها إنهاك مقاومة الضحايا كي يتحقق القضاء عليهم في الجولات التالية بأقل تكلفة، وأقل جهد، وأقصر وقت!
المستوطن الهمجي، والهندي الإنسان
وعندما يتأمل المرء في الطرفين المتقابلين على مائدة المفاوضات، المستوطنون والهنود الحمر، يجد الهنود متفوقين على خصمهم روحياً ونفسياً وإنسانياً تفوقاً تاماً، لكنهم متخلفون عنه مادياً تماماً، ويجد المستوطنين متفوقين مادياً تفوقاً تاماً، لكنهم متخلفون روحياً ونفسياً وإنسانياً تماماً! إنه لمن الواضح أن الإنسان يجلس على مقاعد الهنود، والهمجي المتوحش على مقاعد المستوطنين، بعكس كل ما قيل ويقال على طول الخط! إن الرقة والعذوبة والشفافية، والهواجس الإيجابية الرائعة، والتعاطف مع الإنسان والطبيعة، موجودة في الجانب الهندي، وإن القسوة المجانية، والظلام والغموض، والأفكار الشريرة والنوازع الحيوانية الوحشية، ومعاداة الإنسان والطبيعة، موجودة عند الإباديين المستوطنين! كيف نفسّر هذه المفارقة الظاهرية، وقد اعتاد كثير من الناس، نتيجة التضليل الطويل المركزي الأوروبي الأميركي، رؤية المشهد معكوساً ويا للأسف والعار؟! التفسير بسيط، وهو أن الهنود الحمر في قارتهم شبه المجهولة كانوا لا يزالون يعيشون في المراحل الأولى لتشكل الحياة المجتمعية التي عاشتها المنطقة العربية قبل أكثر من خمسة آلاف عام! كان عهد الهنود يقابل العهود السومرية والبابلية والكنعانية والفرعونية الأولى! إن منطق الزعيم الهندي يذكرنا بمنطق جلجامش السومري العربي، ببراءته وحرارته، وبتفتحه الأول على الحياة الذي يعكس شغفاً فطرياً بالمعرفة لا تحدّه حدود. لقد كان الهنود مثل أطفال أبرياء وقعوا في قبضة منحرفين كباراً أدمنوا القتل! لقد كانوا مثل جلجامش! ومن يجرؤ على قتل جلجامش سوى الوحوش الضارية المفترسة؟!
الفارق بين العرب والهنود الحمر
غير أن عمليات الإبادة والاستيطان ضدّ العرب والمسلمين تعثرت منذ انطلاقتها في الجزائر عام 1830، وهي ما زالت تتعثر في فلسطين، وسوف تفشل على الرغم من شراستها الوحشية، لأن الحضارة العربية الإسلامية العالمية هي من مهّد فكرياً ومادياً لنهوض هذا العصر الأوروبي الأميركي ونظامه العالمي الصناعي الذي تخلّق في رحم عصر الحرفة والتجارة العربي الإسلامي، وإن هو جاء نقيضه من حيث العقيدة السياسية والعلاقات الإنسانية الأممية! إنها الحقيقة، خلافاً لهذا الركام الهائل من عمليات التزوير والتضليل التي تنسب العصر الأوروبي الأميركي إلى أصول أغريقية ويهودية! ذلكم هو الفارق الحاسم بين أوضاع العرب وأوضاع الهنود الحمر، الذي هو في صالح العرب قطعاً. غير أن قطعان الإبادة والاستيطان لا تأبه للفارق، وتواصل هجومها الضاري، فإلى أين يمكنها الوصول؟ لقد بدأت جبهاتنا الباسلة بالإجابة على هذا السؤال، وإنها الإجابة التي يتوقف على فحواها مصير الإنسانية، وليس مصير العرب والمسلمين وحدهم!
زميلك يتمنى التوفيق